اهتمت العديد من الخطب الملكية بإصلاح القضاء ، ومنذ فجر الاستقلال تعددت المبادرات الاصلاحية ، ولم تشمل هذه المبادرات جهاز القضاء فقط ، بل اهتمت بالمهن القضائية والنصوص القانونية .
ومن أهم المبادرات الإصلاحية في هذا الشأن نجد الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة الذي تم بمقاربة تشاركية وبتدخل مختلف شرائح المجتمع ، وقد خلص الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة إلى ميثاق وطني تضمن العديد من التوصيات التي تروم الرقي بمستوى العدالة ببلادنا.
وتبعا لذلك فقد شكل تعديل القوانين الأساسية المتعلقة بجهاز القضاء أحد المحاور الاساسية التي انكبت على إصلاحها السلطة الحكومية المكلفة بالعدل ، وهكذا عرض على البرلمان النظام الأساسي للقضاة ،القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية …،كما صادق المجلس الحكومي مؤخرا على مشروع قانون التنظيم القضائي [1]
إصلاح منظومة العدالة يتلاءم ودستور 2011 والذي عزز مكانة السلطة القضائية وأولاها مهاما جسيمة أهمها ما نص عليه الفصل 117 والذي جاء فيه : << يتولى القاضي حماية حقوق الاشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي ، وتطبيق القانون >>
مفهوم الأمن القضائي تم التأكيد عليه في المادة 34 من مشروع قانون التنظيم القضائي التي نصت على أنه :<< يمارس القضاة مهامهم باستقلال وبتجرد ونزاهة واستقامة ضمانا لمساواة الجميع أمام القضاء ، وحماية لحقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي .
يمارس موظفو هيئة كتابة الضبط مهامهم بتجرد ونزاهة واستقامة>>
إن الأمن القضائي يحيل إلى دور القضاء بمختلف مكوناته مدنيا دستوريا ، اداريا ، جنائيا وتجاريا ، إلى إقرار الحق وضمان التطبيق السليم للنصوص القانونية ، وإلى جودة العمل القضائي التي تنطلق من تدبير القضايا والبت فيها، إلى تنفيذها والمساهمة في خلق القاعدة القانونية ، ليس هذا فقط بل يحيل أيضا إلى تلك الشروط والضمانات التي تحيط بالقاضي وهو يؤدي مهامه ،الضمانات التي تحيط بالمتقاضي وهو يبحث عن تحقيق العدالة في قضيته ، فالأمن القضائي كما يرتبط بجودة النص القانوني الضامن للحق ، يرتبط أيضا بالقانون الاجرائي .
مفهوم الأمن القضائي يتسع ليشمل محيط القاضي وسلطته التقديرية في البت في القضايا، وقدرته على الاجتهاد تحقيقا للعدالة أحيانا حتى ولم تسعفه النصوص القانونية .
في ضوء ما سبق هل سيساهم مشروع قانون التنظيم القضائي في تحقيق الأمن القضائي؟ وبعبارة أخرى وانطلاقا من مشروع قانون التنظيم القضائي ما هي المقتضيات القانونية التي من شأنها أن تساعد على تحقيق الأمن القضائي ؟
المبحث الأول : الأمن القضائي على المستوى الإجرائي
أكد الدستور على أن من المهام الأساسية للقضاء هي حماية حقوق الاشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي ،كما أن الفصل 118 من الدستور المغربي ينص على أن :
<< حق التقاضي مضمون لكل الشخص للدفاع عن حقوقه وعن مصالحه التي يحميها القانون>>
وانسجاما مع هذا المقتضى فإن بداية ضمان هذه الأهداف تنطلق من تسهيل الولوج إلى المحاكم وتقريب هذه الأخيرة من المتقاضين ، بالإضافة إلى إحداث محاكم متخصصة كفيلة بالبت بالجودة المطلوبة في مختلف النزاعات .
فإلى أي حد تضمن مشروع قانون التنظيم القضائي هذه الاجراءات باعتبارها ضرورية لتحقيق شق مهم من الأمن القضائي .
الفقرة الأولى : تسهيل الولوج للمحاكم
بقراءة مشروع التنظيم القضائي للمملكة نجد أن مجموعة من المواد تضمن تسهيل الولوج للمحاكم ، والذي لا يقتصر فقط على شبابيك الاستقبال وتحسين الولوجيات بل يمتد مفهوم الولوج إلى المحاكم ليشمل التمكين من الولوج إلى الحق داخل المحكمة.
وهكذا نصت المادة 35 من مشروع قانون التنظيم القضائي على أنه :<< يسهر مسؤولو المحاكم على تحسين ظروف استقبال الوافدين عليها ، وتيسير ولوج الاشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة لخدماتها ، والتواصل مع المتقاضين بلغة يفهمونها ، وتيسير الوصول إلى المعلومة القانونية والقضائية طبقا للقوانين الجاري بها العمل ، وتمكين المتقاضين من تتبع مسار إجراءات قضاياهم عن بعد في احترام تام للمعطيات الشخصية للأفراد وحمايتها.
يعتبر كل مسؤول قضائي أو من ينيبه عنه ، ناطقا رسميا باسم المحكمة كل فيما يخص مجاله ، ويمكنه عند الاقتضاء ، التواصل مع وسائل الاعلام وتنوير الرأي العام .>>
أولا : تسهيل ظروف الاستقبال
نظرا لأهمية حقلة التواصل الأولى بين المرتفق والمحكمة فقد نصت المادة 35 على أن يسهر على هذه العملية مسؤولو المحاكم ،ونظرا لأهمية هذه الحلقة فقد عملت وزارة العدل والحريات على بذل جهود على هذا المستوى وخلق برنامج معلوماتي يهم هذه العملية ، غير أنه بدل أن تسهل هذه العملية الولوج إلى المحكمة حصل العكس حيث فرضت بعض المحاكم ولوج المحكمة بالإدلاء بالبطاقة الوطنية للتعريف وتسجيلها والاحتفاظ بها وعدم تسليمها للمرتفق إلا عند مغادرته للمحكمة ، وربط الاستقبال بسبب الزيارة والمكتب أو الشخص الذي يرغب في زيارته ، بالإضافة إلى المشاكل المتعلقة بالتواصل وهو الأمر الذي لم يلاق استحسانا من قبل بعض المرتفقات والمرتفقين لهذا الإجراء خاصة عندما يكون عدد الوافدين كثيرا وتؤدي هذه العملية الى التأخر والانتظار سواء أثناء تقديم البطاقة أو عند تسلمها .
وهي أساليب وإن كانت تروم تنظيم المحاكم أو الاستناد إليها في تشخيص وضعية الاستقبال مستقبلا فإننا نعتقد بعدم صلاحيتها على هذه الصيغة .
ثانيا : لغة التقاضي والتواصل
نصت المادة 14 من مشروع قانون التنظيم القضائي على أنه : << تظل اللغة العربية لغة التقاضي والمرافعات وصياغة الأحكام القضائية أمام المحاكم ، مع العمل على تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية طبقا لأحكام الفصل 5 من الدستور.
مع مراعاة مقتضيات الفقرة الأولى أعلاه، يجب تقديم الوثائق والمستندات للمحكمة باللغة العربية أو مصحوبة بترجمتها لهذه اللغة مصادق على صحتها من قبل ترجمان محلف،كما يحق للمحكمة ولأطراف النزاع أو الشهود الاستعانة أثناء الجلسات بترجمان محلف تعينه المحكمة أو تكلف شخصا بالترجمة بعد أن يؤدي اليمين أمامها >>
وهكذا يمكن إبداء الملاحظتين التاليتين :
- إن هذه المقتضيات إيجابية و تعد تفعيلا للفصل الخامس من الدستور الذي ينص على أنه << تظل العربية اللغة الرسمية للدولة .
وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها ، وتنمية استعمالها.
تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة ، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة دون استثناء.
يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية ،وكيفيات إدماجها في مجال التعليم ، وفي مجال الحياة العامة ذات الأولوية ، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية …>>
- إن هذه المقتضيات المتعلقة باللغة تضمن حق التقاضي بلغة يفهمها المتقاضي مدعيا أو مدعى عليه ، وتلامس أحد العناصر المكونة لتحقيق الأمن القانوني والأمن القضائي ، وهي خاصية الوضوح : وضوح القاعدة القانونية التي تنظم حقا من جهة ، وتسهيل الوصول إلى الحق من جهة أخرى .
وتدعيما أكثر للأمن القضائي وللتواصل ومواكبة للثورة التكنولوجية وللمجهودات التي تبذلها وزارة العدل لبلوغ المحكمة الرقمية في سنة 2020 فقد نصت المادة 22 على أنه :<< تعتمد المحاكم الإدارة الإلكترونية للإجراءات والمساطر القضائية ، وفق برامج تحديث الادارة القضائية التي تنفذها وزارة العدل >>
وهو مقتضى بالغ الأهمية ومن شأنه تدعيم عملية تحديث المحاكم ، وتسريع البت في القضايا، بالإضافة إلى توفير الجهود ، وهي أهداف تصب في صميم الأمن القضائي ، وتساعد كل طرف في العملية القضائية على القيام بالأدوار المنوطة به .
ثالثا : المساعدة القضائية
من ضرورات الأمن القضائي وتجلياته أن يمكن كل مرتفق للمحكمة من بلوغ مراده، كيفما كانت وضعيته المادية ، وهكذا نصت المادة 6 من مشروع قانون التنظيم القضائي على أنه :<< طبقا لأحكام الفصل 121 من الدستور يكون التقاضي مجانيا في الحالات المنصوص عليها قانونا لمن لا يتوفر على موارد كافية للتقاضي .
تتم الاستفادة من المساعدة القضائية والمساعدة القانونية طبقا للشروط التي يحددها القانون>> .[2]
وإلى جانب هذه المساعدة القضائية المرتبطة بالجانب المادي فإن هناك نوعا آخر من المساعدة ويتعلق الأمر بالمساعدة الاجتماعية حيث نصت المادة 49 على أنه :<< يحدث بالمحاكم الابتدائية ، بما فيها المصنفة ،مكاتب للمساعدة الاجتماعية .
يمكن لقضاة الاحكام وقضاة النيابة العامة الاستعانة بموظفي هذه المكاتب في مجال قضايا الاسرة وكفالة الاطفال ومكافحة العنف ضد النساء والاطفال.>>
هذا بالإضافة الى ما نصت عليه المادة 18 بصيغة الوجوب على السلطات العمومية بتقديم المساعدة اللازمة أثناء المحاكمة ، إذا صدر الأمر اليها بذلك ، كما يجب عليها تقديم المساعدة على تنفيذ الاحكام.
الفقرة الثانية : تقريب القضاء من المتقاضين
بعد المسافة أحد العوامل المهمة التي تجهض الحق في التقاضي ، وتجعل بلوغ الحق وعلى الأقل الولوج إلى العدالة أمرا مستعصيا ومكلفا ، وهو الأمر أيضا الذي يقتضي عقلنة الخريطة القضائية من جهة ، وتقريب المحاكم بمختلف أنواعها من المتقاضين .
أولا : الخريطة القضائية
من بين السلبيات التي تنعت بها الخريطة القضائية الحالية هي أنها متضخمة وغير معقلنة ، وتبعا لذلك نصت المادة الثانية من مشروع قانون التنظيم القضائي على أنه :<< تحدد الخريطة القضائية وتوزع المحاكم على التراب الوطني طبق المرسوم المشار اليه في المادة الاولى أعلاه مع مراعاة حجــم القضـــايا و المعطيات الجغرافية والديمغرافية والاجتـــماعيــة وكذا التقسيم الإداري للمملكة عند الاقتضاء ، وتراعى أيضا المعطيات الاقتصادية والمالية في إحداث المحاكم التجارية.>>
إن اعتماد خريطة قضائية جيدة لمن شأنه أن يؤدي إلى تحقيق جودة الخدمة القضائية [3]، خاصة إذا تم تقريب المحاكم بمختلف أنواعها ودرجاتها من المتقاضين .
ثانيا : تقريب المحاكم العادية والمتخصصة
لأجل تقريب القضاء من المتقاضين اعتمد مشروع قانون التنظيم القضائي مجموعة من القواعد :
- يمكن إحداث غرف ملحقة بمحاكم ثاني درجة داخل دائرة نفوذها بمرسوم بعد استطلاع رأي المجلس الأعلى للسلطة القضائية ؛[4]
- يمكن للمحاكم عقد جلسات تنقلية ضمن دوائر اختصاصها المحلي ؛[5]
- جعل المحاكم الابتدائية الوحدة الرئيسية في التنظيم القضائي ، وهي صاحبة الولاية العامة ، مع إمكانية إحداث مركز أو مراكز للقضاة المقيمين ، يحدد عددها ودوائر اختصاصاتها بمرسوم بعد استشارة المجلس الأعلى للسلطة القضائية ؛[6]
- تشمل المحكمة الابتدائية على قسم قضاء الاسرة ، كما يمكن أن تشتمل حسب نوعية القضايا التي تختص بالنظر فيها على اقسام وغرف مدنية وزجرية وعقارية وتجارية واجتماعية وغرف قضاء القرب ، ويمكن تقسيم القسم الى غرف وتقسيم الغرف الى هيئات [7]
- تبني مستجد جديد يتعلق بإمكانية احداث أقسام متخصصة في القضاء التجاري والقضاء الاداري بالمحاكم الابتدائية ؛[8]
ورغم وجاهة مجمل هذه القواعد و المدعمة لقرب المحاكم من المتقاضين ،فإن السؤال يظل مشروعا حول اعتماد أقسام متخصصة بالقضاء الإداري و أقسام متخصصة بالقضاء التجاري بالمحاكم الابتدائية .
الفقرة الثالثة : تعميم القضاء المتخصص
منذ مدة والمغرب يعمل بمبدأ القضاء المتخصص سواء في القضايا الإدارية حيث أحدث المحاكم الإدارية[9] وفيما بعد محكمة الإستئناف الادارية [10]، أو في القضاء التجاري حيث أيضا توجد محاكم تجارية ومحاكم استئناف تجارية [11].
إن مشروع قانون التنظيم القضائي قد احتفظ بهذه المحاكم المتخصصة وجعل على قمة
الهرم القضائي محكمة النقض [12]، غير أنه عوض الاستمرار في تجربة القضاء المتخصص ودعمها إن على مستوى المحاكم الابتدائية أو على مستوى محاكم الاستئناف ، تم التنصيص على إمكانية إحداث أقسام متخصصة بالمحاكم الابتدائية .
لقد ارتبط احداث محاكم متخصصة بدعم مسار بناء دولة الحق والقانون [13]، وانسجاما مع التقطيع الجهوي فقد كان من الأولى بدل اعتماد تجربة الأقسام المتخصصة أن تيم إحداث محاكم إدارية على صعيد كل جهة ، وإن كان يبدو أن تجربة الأقسام قد تكون أكثر قربا وجدوى خاصة أنه تم التنصيص على أن القسم الإداري مختص دون غيره في القضايا الادارية [14] ، والقسم التجاري مختص دون غيره في القضايا التجارية المسندة للمحاكم التجارية بمقتضى القانون وكذا القضايا التجارية التي تدخل في اختصاص المحاكم الابتدائية، فإننا نرى عكس ذلك للاعتبارات التالية على الأقل :
- اعتماد المحاكم المتخصصة يكون أكثر نجاعة من حيث تدبير الموارد البشرية ، وجودة الاحكام ؛
- نعتبر أن اقسام متخصصة بالمحاكم الابتدائية ذات الولاية العامة يعتبر تراجعا عن تجربة القضاء المتخصص ،ثم ما الفائدة من اعتماد أقسام متخصصة بالمحاكم الابتدائية طالما أنه لا يمكن لغيرها البت في مجال اختصاصاتها ؛ فهل روعي في ذلك تكلفة إحداث المقار فقط أم ماذا؟
- بالنظر إلى تجربة المحاكم المتخصصة مقارنة بالمحاكم الابتدائية ، نجد أن الأولى أحسن وضعية ، ولذلك فقد كان من اللازم دعمها بدل التراجع عن هذه التجربة، فالثروة كما قال جلالة الملك لا تنحصر فيما هو مادي [15]، تجربة القضاء المتخصص نعتبرها مندرجة في إطار الثروة اللامادية ولذلك وجب المحافظة عليها .
وبناء عليه فإننا نقترح في حالة اعتماد احداث أقسام متخصصة في القضاء الاداري والقضاء التجاري أن تكون هذه الاقسام تابعة للمحكمة الابتدائية الادارية بالنسبة للاقسام الادارية وتابعة للمحكمة التجارية بالنسبة للمحكمة التجارية، وهذا هذا الاقتراح يحقق قرب القضاء من المتقاضين ويحقق في نفس الوقت مبدأ القضاء المتخصص انسجاما والمادة 5 من مشروع قانون التنظيم القضائي ، كما أنه من جهة أخرى يبسط قواعد الاختصاص القضائي ، ويخفف أعباء اضافية عن المحاكم الابتدائية .
المبحث الثاني : الأمن القضائي على مستوى الضمانات المحيطة بتنظيم المحاكم
لا يتصور تحقيق الأمن القضائي إلا بوجود ضمانات تحيط بحق التقاضي ، فلا يتصور بلوغ هذا الحق إلا في ظل تواجد نص قانوني يسعف القاضي في البت في القضايا المعروضة عليه ، ثم لا يتصور تحقيق الأمن القضائي إلا في ظل مرفق قضائي يؤمن استمرارية التقاضي ، وبطبيعة الحال لا يمكن تحقيق الأمن القضائي إلا في ظل نظام سياسي وقضائي يضمن استقلالية السلطة القضائية .
الفقرة الأولى : استقلال السلطة القضائية
مبدأ استقلالية السلطة القضائية مبدأ مهم نصت عليه المواثيق الدولية حيث نجد مثلا ما نصت عليه المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948 على أنه :<< لكل انسان على قدم المساواة أن تنظر في قضيته محكمة مستقلة ومحايدة نظرا منصفا وعلنيا، للفصل في حقوقه والتزاماته في أية تهمة جنائية توجه إليه.>> ، كما تضمنه الدستور المغربي في بابه السابع والذي تضمن العديد من القواعد المؤسسة لاستقلالية السلطة القضائية نذكر منها :
- السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية ؛
- عدم تلقي القضاة لأي أمر أو تعليمات ولا يخضعون لأية ضغوط ؛
- معاقبة كل من حاول التأثير على استقلالية القاضي ؛
- المجلس الأعلى للسلطة القضائية هو من يسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ، ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم ؛
- المقررات المتعلقة بالوضعية الفردية الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية قابلة للطعن بسبب الشطط في استعمال اللسلطة أمام أعلى هيئة قضائية إدارية بالمملكة؛
وفي إطار دعم استقلال السلطة القضائية فقد وضع على عاتق القضاة التزامات تتمثل فيما يلي :
- يلتزم القاضي بواجب الاستقلال والتجرد ، ويعد كل اخلال خطأ مهنيا جسيما ، بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة ؛
- يسعى القضاة إلى تحقيق المحاكمة العادلة ؛
- الالتزام بواجب التحفظ والأخلاقيات القضائية ؛
- يمنع على القضاة الانخراط في الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية ؛
- وبصفة عامة يتولى القضاة حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي وتطبيق القانون؛
- على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون ، كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها.
وبالرجوع إلى مشروع قانون التنظيم القضائي نجده بدوره قد أكد القواعد المشار إليها أعلاه ، جاء في المادة الرابعة على أنه :<< يقوم التنظيم القضائي على مبدأ استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية .>> وهذ الاستقلال لا ينفي التعاون بين السلطة القضائية والسلطة الحكومية المكلفة بالعدل فيما يتعلق بالتسيير الإداري للمحاكم ، بما يضمن حسن سير العدالة .[16]
كما أنه وحرصا على استقلالية السلطة القضائية نصت المادة 17 على أنه :<< يمارس مهام النيابة العامة قضاتها ، تحت سلطة ومراقبة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ، ورؤسائهم التسلسليين .
ولا يحضر قضاة النيابة العامة مداولات قضاة الاحكام>>
وبالتالي فقد تم إزاحة إشراف الوزير المكلف بالعدل عن أي إشراف يتعلق بالجانب القضائي الصرف .
إن الأمن القضائي لا يتوقف تحقيقه على شخص القاضي ، بل يساهم فيه مختلف الهيئات المهنية بما فيها كتابة الضبط ، وهو الأمر الذي يجعلنا نتساءل إلى أي حد يمكن ضمان الأمن القضائي في ظل إمكانية توقف المرفق القضائي عن العمل وعرقلة استمراريته .
الفقرة الثانية : استمرارية الخدمات القضائية
من المبادئ الأساسية للمرافق العمومية مبدأ الاستمرارية وفي ظل مبدأ الاستمرارية يضمن الحق في الإضراب باعتباره حقا دستوريا نص عليه الفصل 29 من الدستور والذي جاء فيه :<< حرية الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي وتأسيس الجمعيات ، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة . ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات .
حق الاضراب مضمون . ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته.>>
الحق في الإضراب يطرح إشكالات على مستوى المرافق الإدارية العادية ،ويطرح نقاشا أكثر في ظل مرفق عمومي دستوري كما وصفه الخطاب الملكي سنة 2003.
بالرجوع إلى مشروع قانون التنظيم القضائي نجد أنه أكد على ضرورة استمرارية المرفق القضائي حيث نجد المادة السابعة تنص على أنه :<< تمارس المحاكم أشغالها ، تحت إشراف مسؤوليها ، بما يؤمن انتظام واستمرارية الخدمات القضائية . ويتم تنظيم الرخص الإدارية للقضاة وموظفي هيئة كتابة الضبط بكيفية لا تخل بالسير العادي لعمل المحاكم
تعقد المحاكم جلساتها دون انقطاع وتنظم بكيفية لا يترتب عنها توقفها او تأجيلها >>
فإذا كان تنظيم العطل الإدارية تقتضيه استمرارية أي مرفق عمومي وأمر مقبول ويتم من أجل ضمان السير العادي ، فكيف يمكن تفسير مبدأ الاستمرارية في ظل الاضرابات التي يعرفها قطاع العدل ؟
الأمر يتوقف على صدور القانون التنظيمي للإضراب والذي سيكون للمحكمة الدستورية دور أساسي في مراقبة دستوريته .
الفقرة الثالثة : الدفع بعدم دستورية القوانين
خصص الباب الثامن من الدستور المغربي للمحكمة الدستورية ، وهي محكمة تساهم في تحقيق الأمن القانوني والأمن القضائي .
الدستور المغربي تضمن ولأول مرة إمكانية مراقبة دستورية القوانين عن طريق الدفع وهو ما نص عليه الفصل 133 على أنه :<< تختص المحكمة الدستورية بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون ، أثير أثناء النظر في قضية ، وذلك إذا دفع أحد الاطراف بأن القانون ، الذي سيطبق في النزاع يمس بالحقوق وبالحريات التي يضمنها الدستور .
يحدد قانون تنظيمي شروط وإجراءات تطبيق هذا الفصل .>>
وبالرجوع إلى القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية نجد أن المادة 28 منه أحالت بدورها على قانون تنظيمي حيث نصت على أنه :<< تحدد بقانون تنظيمي لاحق، شروط وإجراءات ممارسة المحكمة الدستورية لاختصاصاتها في مجال النظر في كل دفع بعدم دستورية قانون، طبقا لأحكام الفصل 133 من الدستور.>>
رقابة دستورية القوانين متوقفة إذا على صدور قانون تنظيمي ، وإلى ذاك الحين فلا يمكن أن يمارس أمام المحاكم هذا النوع من الرقابة.
والملاحظ أن عدم صدور هذه القوانين التنظيمية أو على الاقل استغراق مدة زمنية طويلة لإصدارها يؤدي إلى عرقلة الأمن القضائي ويمس جوهر الأمن القانوني .
فممارسة الحقوق بما فيها حق التقاضي يقتضي من كل سلطة أو جهة المساهمة الفاعلة كل في حدود اختصاصاته وبمقاربة تشاركية .
المبحث الثالث : الأمن القضائي على مستوى تسيير المحاكم
بالإطلاع على مشروع قانون التنظيم القضائي نجد أنه أحدث مجموعة من الأجهزة والتي يتوخى من خلالها التسيير الجيد للمحكمة ، كما أنه بقراءة مشروع قانون التنظيم القضائي نقف على أنه كما حدد حقوقا للمتقاضين فقد وضع على عاتقهم عدة التزامات .
الفقرة الأولى : تنظيم نشاط المحكمة
من تجليات الأمن القضائي أن تخضع المحاكم في تسييرها لقواعد وواضحة وبمساهمة مختلف المتدخلين في العملية القضائية ، ولذلك تم إحداث مجموعة من الأجهزة الهدف منها التسيير الجيد والتشاركي للمحاكم ، كما أنه وتفاديا للاختلالات فقد تم التنصيص على أجهزة مكلفة بالتفتيش.
أولا : أجهزة التسيير
بالرغم من تنصيص المادة السابعة على أن المحاكم تمارس عملها تحت إشراف مسؤوليها ، أي المسؤولين القضائيين والإداريين ،فإنه قد أوجد إلى جانب ذلك مجموعة من الأجهزة تجسيدا لمقاربة تشاركية لتسيير المحاكم ، وهكذا نجد :
– لجنة لبحث صعوبات سير العمل بالمحكمة
– مكتب المحكمة
– الجمعية العامة للمحكمة
– الكاتب العام للمحكمة
بقراءة المهام المتعلقة بهذه الأجهزة نجد أنها تهدف إلى الرفع من النجاعة القضائية، ومن شأن هذه الأجهزة أن تساهم في تحقيق الأمن القضائي ، ويتضح ذلك من خلال ما يلي :
- تواجد نقيب هيئة المحامين بلجنة بحث الصعوبات وامكانية إحداث لجان أخرى، ولا يمكن أن ننكر هنا ما يقدمه المحامون من مساهمات في تحقيق العدالة؛
- يرفع مشروع تنظيم العمل المعد من قبل مكتب المحكمة إلى الجمعية العامة قصد المصادقة عليه ؛
- مناقشة أساليب تجويد العمل القضائي بالمحكمة ؛
- تدارس الطرق الكفيلة بالرفع من النجاعة القضائية بالمحكمة وتحديث أساليب العمل بها؛
- إحداث منصب الكاتب العام كمنصب جديد بالمحكمة يتولى مهام التسيير والتدبير الاداري بالمحكمة ، وضبط مختلف مصالح كتابة الضبط والمصالح المحاسبية بها
و الاشراف على موظفي هيئة كتابة الضبط العاملين بها، ويساعده في ذلك رؤساء مصالح كتابة الضبط بالمحكمة ، ومن الملاحظ أن مشروع قانون التنظيم القضائي تجاوز الصيغة التي كانت بمسودة المشروع والتي كانت تشير إلى المسير الاداري مع تقزيم دوره سواء على مستوى تقييده بالانضباط والانحراف في استعمال السلطة الرئاسية أو تقليص دوره إلى جانب باقي المؤسسات وجعله تقريريا ومتجسدا في كتابة محاضر اجتماعات الجمعية العامة مثلا.
ثانيا : أجهزة التفتيش
تعتبر آلية التفتيش من بين الضمانات الأساسية لتحقيق الأمن القضائي ، وتبعا لذلك فقد تم التنصيص على دور المفتشية العامة للشؤون القضائية المنصوص عليها في القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية ، بالإضافة التفتيش التسلسلي [17].
وحسب المادة 101 من مشروع قانون التنظيم القضائي فإن تفتيش المصالح الادارية والمالية والمحاسبية للمصالح اللاممركزة ولكتابة الضبط بالمحاكم يتم تفتيشها طبقا للنصوص التنظيمية الجاري بها العمل .
إن هذه الآلية تتلاءم والباب الثاني عشر من الدستور المغربي والذي نص الفصل 154 منه على أنه :<< يتم تنظيم المرافق العمومية على أساس المساواة بين المواطنات والمواطنين في الولوج إليها ، والإنصاف في تغطية التراب الوطني ، والاستمرارية في أداء الخدمات .
تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية ، وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور.>>
الفقرة الثانية : العناية بمقاربة النوع
نص الفصل 19 من الدستور المغربي على أنه :<< يتمتع الرجل والمرأة ، على قدم المساواة ،بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية ، الواردة في هذا الباب من الدستور ، وفي مقتضياته الأخرى ، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية ،كما صادق عليها المغرب ، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها .
تسعى الدولة إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء .
وتحدث لهذه الغاية ، هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز >>
ومع ملاحظة أن مشروع قانون التنظيم القضائي لا يشير الى هذه المسألة على مستوى تشكيل هيئاته الادارية ، فإن مقاربة النوع لا تقتصر على التمثيلية النسائية بالأجهزة الإدارية للمحكمة ، بل تتعدى ذلك إذ تم إيلاء الاهتمام للفئات الهشة وبالخصوص في مجال قضايا الأسرة وكفالة الأطفال ومكافحة العنف ضد النساء والأطفال ؛حيث يمكن الاستعانة بالمساعدة الاجتماعية في هذا الجانب، وهو حق ضمنته المادة 49 من مشروع قانون التنظيم القضائي كما سبقت الإشارة إليها.
الفقرة الثالثة : حقوق المتقاضين والتزاماتهم
لا يتوقف تحقيق الأمن القضائي للمتقاضين على التمكين من ممارسة الحقوق ،بل أيضا بوضوح الالتزامات التي تقع على عاتق المتقاضين.
أولا : حقوق المتقاضين
مجموعة من الحقوق يسعى المشرع إلى ضمانها بقانون التنظيم القضائي للمملكة ونخص بالذكر :
- التزام القضاة وموظفو هيئة كتابة الضبط بمناسبة ممارستهم لمهامهم بالتجرد والحياد ضمانا لمبدأ مساواة الجميع أمام القضاء ، وحماية لحقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي ؛
- التزام قضاة الأحكام بالقانون والحرص على التطبيق العادل له ؛
الحق في محاكمة عادلة في جميع مراحل التقاضي ؛
- احترام حق الدفاع بما يحقق البت في القضايا وصدور الأحكام داخل أجل معقول ؛
- الحق في الطعن في الأحكام والقرارات القضائية وفق الشروط المحددة قانونا ؛
- الحق في التعويض عن الخطأ القضائي ؛
- حق المتقاضي في أن ينظر في قضيته بشفافية ونزاهة من طرف قضاة الحكم قضاة النيابة العامة وموظفي هيئة كتابة الضبط بعيدا عن كل المؤثرات التي تمس باستقلاليته، ومن حقه إثارة حالات التنافي وتجريح ومخاصمة القضاة …
هذا وبالمقابل فإن المواطنة الملتزمة تستدعي من المتقاضين كما يسعون إلى ممارسة الحقوق أن يتحملوا الالتزامات .
ثانيا : التزامات المتقاضين
ينص الفصل 37 من الدستور المغربي على أنه :<< على جميع المواطنات والمواطنين احترام الدستور والتقيد بالقانون ، ويتعين عليهم ممارسة الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة ، التي تتلاءم فيها ممارسة الحقوق بالنهوض بأداء الواجبات >>
إن الأمن القضائي مهمة لا تتحقق من طرف السلطات العمومية فقط ، بل هو هدف يجب أن يساهم فيه المتقاضي أيضا على جميع المستويات وبالأخص على مستوى ممارسة حقه في التقاضي بحسن نية ، وبما لا يعرقل سير العدالة كما نصت على ذلك المادة 36 من مشروع قانون التنظيم القضائي للمملكة التي نصت على أنه :<< يمارس حق التقاضي بحسن نية ، وبما لا يعرقل حسن سير العدالة …>>.
وفي ضوء ما سبق ، وبالرغم من أهمية النصوص القانونية في تحقيق الامن القضائي، فإننا نشير الى أن الأمن القضائي يساهم في تحقيقه المتقاضي المعني بالبت في قضيته ، يساهم فيه كذلك كل مواطن باعتبار أن مرفق القضاء مرفق عمومي ومن حق أي مواطنة ومواطن أن يتقدم بملاحظات أو اقتراحات لتحسين جودة العمل القضائي .
الأمن القضائي يتحقق أيضا باحترام مؤسسة القضاء وربط جسور الثقة بين المواطن والمرافق العمومية بصفة عامة .
يتحقق الأمن القضائي في جزء هام منه بالتأسيس لثقافة المواطنة الملتزمة وبالاستمرار في دعم دولة الحق والمؤسسات [18].
[1] صادق مجلس الحكومة بتاريخ 18 فبراير 2016 على مشروع قانون رقم 15-38 يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة .
[2] ينص الفصل 121 من الدستور المغربي على أنه :<< يكون التقاضي مجانيا في الحالات المنصوص عليها قانونا لمن لا يتوفر على موارد كافية للتقاضي >>
[3] القريشي عبد الواحد ، <<الامن القضائي ومسار بناء دولة الحق والقانون >>، مجلة المنارة للدراسات القانونية والادارية ، العدد 13 ، 2016.
[4] المادة 3 من مشروع قانون التنظيم القضائي .
[5] المادة 3 من مشروع قانون التنظيم القضائي .
[6] المادة 42 من مشروع قانون التنظيم القضائي .
[7] المادة 43 من مشروع قانون التنظيم القضائي .
[8] المادة 43 من مشروع قانون التنظيم القضائي .
[9] القانون 41.90 المحدثة بموجبه المحاكم الادارية.
[10] القانون 80.03 المحدثة بموجبه محاكم الاستئناف الادارية .
[11] القانون رقم 53.95 القاضي بإحداث محاكم تجارية.
[12] المادة 86 من مشروع قانون التنظيم القضائي .
[13] الخطاب الملكي لثامن ماي 1990.
[14] المادة 57 من مشروع قانون التنظيم القضائي .
[15] خطاب العرش لجلالة الملك محمد السادس بتاريخ 31 يوليوز 2014.
[16] تبعا لما نص عليه الفصل الاول من الدستور المغربي .
أنظر حول طبيعة الفصل بين السلط المعتمد بالتنظيم القضائي : القريشي عبد الواحد ،<< سؤال الحكامة الادارية من خلال مشروع قانون التنظيم القضائي>> ،سينشر بالعدد 115 من مجلة المنارة للدراسات القانونية والادارية ،2016.
[17] المادة 100 من مشروع قانون التنظيم القضائي للمملكة .
[18] هذا المقال عبارة عن مداخلة تمت المساهمة بها في ندوة قراءة في مشروع قانون التنظيم القضائي في ضوء الجهوية المتقدمة المنظمة بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بمراكش يومي 18-19 مارس 2016.