العدالة مفهوم فضفاض تختلف تفاسيره حسب الخلفيات والأيديولوجيات والتوجهات الدينية والفلسفية والقانونية والعرفية، غير أنها دائما تطمح إلى خلق نوع من المساواة بين مختلف أفراد المجتمع وفق تصور إنساني يتماشى مع خصوصية المجتمع، فتحقيق العدالة يمر عبر عدة آليات وإجراءات قانونية متوازنة وجهاز قضائي مستقل وفعال كل هذا يؤدي إلى السلم الاجتماعي وسلامة العمران وتعاقد اجتماعي مسؤول بين السلطة والمواطن والمؤسسات.
المجتمعات التي تغيب عنها العدالة مجتمعات مصيرها الانهيار وعدم الاستقرار لدلك فمن مصلحة الفاعل العمومي تطوير منظومة العدالة وتحصينها من أي انزلاقات قد تكلف غاليا استقرار أي مجتمع ينتج عنه تزايد السخط الشعبي وتنامي الإحساس بعدم الأمان والاعتقاد بان هذه المنظومة هي منظومة معطوبة غير قابلة إلى الإصلاح وعاجزة عن ضمان حقوق الناس وفاشلة بالقيام بدورها البنيوي والوظيفي.
السياق السياسي
عرف المشهد السياسي المغربي منذ الاستقلال إلى غاية أواخر التسعينيات تجاذبات سياسية كبيرة وصلت في بعض الأوقات إلى الخصومة السياسية بين المؤسسة الملكية التنفيذية و قوى المعارضة ” أحزاب، نقابات، منظمات طلابية…” مما اثر سلبا على منظومة العدالة واستقلالية القضاء، تمظهر هذا السلوك في الاعتقالات التعسفية في تلك الفترة بدون الاعتماد على مساطر قانونية تحترم حقوق المواطنة هذه الاعتقالات شملت كل التيارات المعارضة للنظام السياسي المغربي كان أكثرها فظاعة المعتقلات السرية على سبيل المثال معتقل “تزمامارت” نواحي منطقة” تنغير”.
تحكم النظام المغربي في الحقل السياسي والخارطة الانتخابية التي كانت عبارة عن مسرحيات سياسية حسب المعارضة السياسية في تلك الفترة مما أعطى انطباعا أن منظومة العدالة شبه غائبة ومتحكم فيها وأداة لضرب الخصوم السياسيين أو أداة لتحقيق مصالح اقتصادية “مشبوهة”.
كان العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني يدرك مدى تأزم الوضع السياسي المغربي في فترة أواخر التسعينيات من القرن الماضي الذي وصفه بكلمته الشهيرة “السكتة القلبية” الشيء الذي دفعه إلى فتح قنوات الحوار مع المعارضة السياسة والإعفاء عن المعتقلين السياسيين وذلك لتحسين ظروف الانتقال الديمقراطي كتكتيك زمني يخدم آلية انتقال العرش إلى ولي عهده الملك محمد السادس هذا الأخير بعدما استلم مقاليد الحكم أعطى إشارات سياسية عديدة بالدعوة إلى المصالحة والوطنية وتخطي مرحلة السكتة القلبية وتكريس فكرة التناوب السياسي والانفتاح الديمقراطي والقطع مع عقلية “المخزن” التقليدية وجبر الضرر لضحايا سنوات الرصاص المتمثلة في هيئة الإنصاف والمصالحة.
كان القضاء في صلب الخيارات السياسية للعهد الجديد على مستوى خطابه السياسي خاصة بعد توالي التقارير الدولية والوطنية التي وصفت منظومة العدالة المغربية بغير المؤهلة للقيام بدورها الوظيفي بسبب الفساد وبطيء التقاضي والمساطر المعقدة…نذكر أهمها تقارير صندوق النقد الدولي، وتقرير الخارجية الأمريكية أضف إلى دلك توصيات منظمات حقوقية دولية ومغربية بضرورة دسترة القضاء كسلطة مستقلة غير تابعة إلى السلطة التنفيذية ودعم وسائل المراقبة القضائية، تبسيط المساطر القضائية، تقريب القضاء…
الإرهاصات الأولى لإصلاح منظومة القضاء
بعد اعتلاء العاهل المغربي الملك محمد السادس للعرش في سنة 1999 أصبح إصلاح منظومة العدالة في المغرب ضرورة استراتيجية ملحة لإعطاء نفس جديد للدولة المغربية وتسويق فكرة المفهوم الجديد للسلطة وبناء دولة الحق والقانون وطنيا ودوليا، هذا الاهتمام برز في عدة إشارات وخطابات ملكية تطرق فيها إلى ضرورة إصلاح هذا الجهاز أهمها الخطاب الملكي بمناسبة ترؤسه افتتاح دورة المجلس الأعلى للقضاء 2002. تلاه الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح السنة القضائية باكادير يناير 2003 تم خطابه في ذكرى ثورة الملك والشعب سنة 2009 إضافة إلى الاهتمام الملكي بهذا الورش كان هناك تفاعل للمجتمع المدني والأحزاب السياسية بالترافع لإصلاح هذه المنظومة من خلال تنظيم عدة ندوات كان أهمها الندوة الوطنية من اجل التوقيع على المذكرة المتعلقة بإصلاح القضاء وفتح حوار وطني حول هذا الورش المهم.
مسار إصلاح القضاء بعد الحراك المغربي سنة2011.
بعد الحراك الشعبي المغربي إبان الربيع العربي أصبح إصلاح منظومة العدالة ضرورة تكتيكية لامتصاص الغضب الشعبي المتزايد وبالتالي كانت ردة فعل على احتجاجات 20 فبراير والتي كانت من نتائجها إرساء مسار هذا الإصلاح نحو دسترة استقلالية القضاء حيث تضمن الدستور الجديد لسنة 2011 استقلالية السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية عوض تسميته الجهاز القضائي كما تضمنته الدساتير السابقة.
توسيع تركيبة وصلاحيات المجلس الأعلى للسلطة القضائية وإصدار القانون التنظيمي المنظم له والهدف الأساسي من هذه المتغيرات الدستورية هو تحقيق الأمن القضائي وصون حقوق الأفراد والجماعات وضمان كرامتهم. من بين الإصلاحات الأساسية أيضا استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية “وزارة العدل” ودلك لترسيخ مبدأ استقلال القضاء ونزاهته.
شكل الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة في سنة 2012 محطة مهمة وإجرائية لانطلاق هذا الورش حيث قام العاهل المغربي بتنصيب أعضاء الهيئة العليا للحوار الوطني والتي شملت 40 شخصا مثلت مختلف القطاعات المرتبطة بهذا المجال “مؤسسات دستورية وحكومية وقضائية تمثيليات للمجتمع المدني وغيرها” الهدف من هذا الحوار هو الوصول إلى ميثاق وطني مشترك وتوافقي يؤسس إلى استقلال هذه المؤسسة وإعطاءها دماء جديدة للقيام بدورها الطبيعي في المجتمع المغربي..
من توصيات الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة تبني ستة أهداف استراتيجية: توطيد استقلال السلطة القضائية، تخليق منظومة العدالة، تعزيز حماية القضاء والحريات، الارتقاء بنجاعة القضاء، إنماء القدرات المؤسسية لمنظومة العدالة، تحديث الإدارة القضائية وتعزيز حكامتها.
الإكراهات والتحديات
يعترض مشروع إصلاح منظومة العدالة عدة تحديات أهمها: هل يستطيع الفاعل العمومي المغربي تنزيل المبادئ المنصوصة دستوريا على مستوى السلطة القضائية بنفس السقف الحقوقي الذي جاء به دستور 2011؟
من بين التحديات الأخرى بطيء تنزيل روح مضامين الدستور فيما يخص آليات عمل الجسم القضائي حيث أن هذا الأخير سيتطلب بعضا من الوقت لاستيعاب عقلية جديدة في آلية اشتغال المؤسسة القضائية.
رهان تقارير المؤسسات الدولية والمنظمات الحقوقية حول المؤسسة القضائية خاصة أن المغرب مازال يعيش حالة احتقان شعبي كبير تمثل في حراك الريف في الشمال المغربي وأيضا احتجاجات منطقة جرادة الاجتماعية وغيرها من المناطق المغربية أضف إلى دلك حملة المقاطعة الكبيرة للشعب المغربي التي كانت تحمل عدة رسائل للفاعل العمومي دون أن ننسى مسلسل الاعتقالات والمحاكمات لمجموعة من الصحافيين والناشطين الحقوقيين مما يعطي انطباع حسب العديد من المراقبين أن القضاء مازال وسيلة فعالة في يد السلطة تستخدمها لردع الأصوات المخالفة لها.
أحد أهم التحديات هو ضرورة تخليق منظومة العدالة وتكريس مبدأ الشفافية وذلك من أجل استرجاع ثقة المواطنين في القضاء وإرضاء انتظارات الرأي العام حول نجاعة القضاء في ضمان الأمن القضائي وانخراطه في ورش الإصلاحات الكبرى للمجتمع المغربي.